الرسول والسوق
قال تعالى : (وَقَالُوا۟ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِي ٱلْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌۭ فَيَكُونَ مَعَهُۥ نَذِيرًا) كما كان الأنبياء قبله يأتون الأسواق للبيع والشراء (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)
لقد أخبر الله تعالى عن قوم من المشركين حين اعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم نبوته ورسالته بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وهذا يتنافى في نظرهم إذ أنه من خصائص البشر، وكأنهم يريدون أن يقولوا كيف يكون له ذلك وهو مثلنا يأكل الطعام كما نأكل ويمشي في الأسواق كما هو حالنا فهلا كان ملَكًا لا يأكل الطعام، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر.
قال القرطبي رحمه الله: دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش. وكان عليه السلام يدخلها لحاجته, ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته , ويعرض نفسه فيها على القبائل, لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق.
والأسواق معروفة منذ القدم إذ من خلالها يتم تبادل المصالح والبيع والشراء، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) . في مواسم الحج وفي لفظ كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه فنزلت (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج). قرأها ابن عباس أي قرأ هذه اللفظة "في مواسم الحج" في جملة القرآن، فتكون تفسيرا للآية وليست بقرآن.
(ذو المجاز) اسم سوق للعرب في الجاهلية كان إلى جانب عرفة وقيل في منى. (عكاظ) اسم سوق كان بناحية مكة . (متجر) مكان تجارتهم.
وقال البخاري: باب ما ذكر في الأسواق : ثم ذكر مجموعة آثار منها:
قال عبد الرحمن بن عوف لما قدمنا إلى المدينة قلت هل من سوق فيه تجارة ؟ قال: سوق قينقاع .. وقال أنس: قال عبد الرحمن: دلوني على السوق . . وقال عمر: ألهاني الصفق بالأسواق.
موقف السلف من الأسواق
قال سفيان الثوري في وصيته الطويلة لعلي بن الحسن المسلمي: وفيها : (....وأقِلَّ دخول السوق؛ فإنهم ذئاب عليهم ثياب ، وفيها مردة الشياطين من الجن والإنس ...)
وعن سلمان رضي الله عنه قال: (لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته)
وعن ميثم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بلغني أن الملك يغدو برايته مع أول من يغدو إلى المسجد فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخل بها منزله وإن الشيطان يغدو برايته إلى السوق مع أول من يغدو فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخلها منزله
وعن أبي عثمان قال : قال لي سلمان الفارسي: (إن السوق مبيض الشيطان ومفرخه فان استطعت أن لا تكون أول من يدخلها ولا آخر من يخرج منها فافعل)
حكم دخول الأسواق
على ضوء ما تقدم يمكن أن نجمل القول أن دخول السوق له حكم إباحة وحكم كراهة.
الإباحة: وهو الأصل لما تقدم من حال الرسل عليهم الصلاة والسلام ثم هو ضرورة إنسانية لقضاء الحاجات من الطعام والشراب واللباس وغيره ثم الله تعالى يرزق بعض الناس ببعض بالبيع والشراء الذي لا يتم إلا بالأسواق.
الكراهة: وذلك إذا فشا في الأسواق المنكرات والمخالفات الشرعية وتعذر فيها الإنكار كما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النساء وانتشرت فيها المظاهر المخلة بالحياء خاصة من قبل الكفار والمتشبهين بهم. ولهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المنكرات: كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها . فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده, وأنه إن أقام هناك هلك, ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته, وتحرز من سوء عاقبته وبليته.