سبب النزول:
روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم
فقالت يا رسول الله:
«إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد و لا ولد،
فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع؟
فنزلت الآية الكريمة
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ﴾
رواه الفريابي من طريق عدي بن ثابت و ذكره الطبري و الألوسي.
و روى ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه لما نزل
قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ﴾
قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله:
فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة و المدينة و الشام و بيت المقدس و لهم بيوت معلومة على الطريق.
فكيف يستأذنون و يسلمون و ليس فيها سكان؟
فرخص سبحانه في ذلك فأنزل
قوله تعالى:
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾
ذكره الألوسي في روح المعاني ص. 137 – ج 18.
مناسبة هذه الآيات لما سبقها في سياق السورة:
لما بينت السورة في مطلعها شناعة الزنى و قبحه و ضرره على الأفراد و الجماعات و عقوبته و ما يستحق مرتكبه من العذاب،
و كان النظر و الخلوة و التبرج و اختلاس النظر إلى العورات المخابرة بين الرجال و النساء
على طريق التصرفات المريبة كالأصوات المائعة و الضحكات الخليعة
و التهجم على الناس و مفاجأتهم في بيوتهم من غير إذن
هو القنطرة التي يعبر عليها إلى شاطئ الفاحشة و الرذيلة،
و هتك الأعراض و استباحة الحرمات،
فإن الإسلام حمى حماه و أقام سدودا حصينة،
و حواجز منيعة حول حرمات الله بتشريع تدابير وقائية،
تعصم الناس إن هم استمسكوا بها من اقتحام حدود الله
و كان من بين هذه التدابير الوقائية
آداب الاستئذان
الراقية التي تدل على درجة عالية في سلم المثل و القيم الحضارية الإسلامية.
و هذا وجه الارتباط بين آيات الاستئذان
و ما سبقها من الآيات في سورة النور.
تفسير آيات الاستئذان:
و الآن و قد فهمنا بعض مدلولات الألفاظ و ألممنا بسبب النزول،
و أدركنا وجه الارتباط بين الآيات و ما سبقها في سياق السورة، لم يبق إلا أن نباشر تفصيل المعاني مباشرة شاملة
للموضوع محيطة إن شاء الله بجميع جوانبه جارين فيه على السَّنن الآتي:
الاستئذان ثلاثا هو السنة:
مضت السنة على أن يستأذن الزائر ثلاث مرات
فإن أذن له و إلا رجع لما ثبت في الصحيح
«أن أبا موسى الأشعري استأذن على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثلاثا،
فلما لم يؤذن له، انصرف، ثم قال عمر ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس – يعني أبا موسى – يستأذن؟
ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب،
فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك؟
قال: إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي،
و إني سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول:
«إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف»
فقال عمر:
«لتأتيني على هذا بينة و إلا أوجعتك ضربا»
فذهب إلى ملإ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر،
فقالوا: لا يشهد لك إلا أصغرنا،
فقام معه أبو سعيد الخدري فأخبر عمر بذلك،
فقال: ألهاني عنه الصفق بالأسواق»
متفق عليه.
و في هذا الحديث فوائد:
سنة الاستئذان ثلاثا:
جواز تأخير الإذن مع سماع استئذان الزائر لشغل هام أو لمصلحة مرعية فإن عمر سمع أبا موسى
فلم يأذن له فلما فرغ قال ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن.
وجوب التثبت من الخبر إذا كان يتعلق بالدين
و لو كان المخبر ثقة،
فإن عمر لم يكن يتهم أبا موسى و قد ولاه القضاء، و لكن خشي أن يتجرأ الناس
على الحديث فيفشو الكذب على النبي صلى الله عليه و سلم ،
و تلك أكبر كارثة،
أن يصاب الناس في دينهم، و لذلك طلب منه البينة،
و الفائدة الرابعة مما تضمنه الحديث علم الأنصار
و فضلهم و حرصهم على الحديث ألم تلاحظ قولهم لآبي موسى:
«لا يشهد لك إلا أصغرنا»
و الفائدة الخامسة مكانة أبي سعيد في العلم حيث اهتم به و هو صغير،
و شهد له بذلك أفاضل الأنصار و قدموه.
و الفائدة السادسة تواضع عمر حيث اعتذر عن خفاء الحديث عليه بقوله
«ألهاني عنه الصفق بالأسواق»
يقصد أن التجارة شغلته عن ملازمة الرسول صلى الله عليه و سلم و الاستفادة منه،
و قد علمت الدنيا مكانة عمر من نبي الله و ملازمته له،
و لكنه فضل السلف الصالح يحملهم على هضم نفوسهم
و التنقيص منها ليزدادوا بذلك رفعة عند ربهم.