* خطبة النعمان بن المنذر
قال النعمان اما امتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل لموضعها
الذي هي به من عقولها واحلامها وبسطة محلها وبحبوحة عزها
وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك
واما الأمم التي ذكرت
فاي أمة تقرنها بالعرب الا فضلتها
قال كسرى : بماذا
قال النعمان بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها
وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها
فأما عزها ومنعتها فانها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجند لم يطمع فيهم طامع ولم ينلهم نائل
حصونهم ظهور خيلهم ومهادهم الارض وسقوفهم السماء
وجنتهم السيوف وعدتهم الصبر
اذ غيرها من الأمم انما عزها من الحجارة والطين وجزائر البحور
واما حسن وجوهها وألوانها
فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المنحرفة والصين المنحفة والروم والترك المشوهة المقشرة.
وأما أنسابها وأحسابها فليست أمة من الأمم الا وقد جهلت آباءها واصولها وكثيرا
من أولها حتى إن احدهم ليسأل عمن وراء أبيه ذنيا فلا ينسبه ولا يعرفه
وليس أحد من العرب الا يسمى آباءه ابا فأبا حاطوا بذلك أحسابهم
وحفظوا به أنسابهم فلا يدخل رجل في غير قومه
ولا ينتسب الى غير نسبه ولا يدعى الى غير أبيه
واما سخاؤها فإن ادناهم رجلا الذي تكون عنده البكرة والناب
عليها بلاغه في حموله وشبعه وريه
فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزي بالشربة
فيعقرها له ويرضى ان يخرج عن دنياه كلها
فيما يكسبه حسن الاحدوثة وطيب الذكر
واما حكمة ألسنتهم فان الله تعالى أعطاهم في اشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه
مع معرفتهم الأشياء وضربهم للأمثال وابلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس
ثم خيلهم افضل الخيل ونساؤهم اعف النساء ولباسهم افضل اللباس
ومعادنهم الذهب والفضة وحجارة جبالهم الجزع
ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر ولا يقطع بمثلها بلد قفر
وأما دينها وشريعتها فانهم متمسكون به حتى يبلغ احدهم من نسكه بدينه
ان لهم اشهر حرما وبلدا محرما وبيتا محجوجا ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون فيه ذبائحهم
فيلقى الرجل قاتل ابيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثاره وادراك رغمه منه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى.
وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومي الايماءة فهي ولث وعقدة لا يحلها
الا خروج نفسه وان احدهم يرفع عودا من الارض فيكون رهنا بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته
وان احدهم ليبلغه ان رجلا استجار به وعسى ان يكون نائيا عن داره
فيصاب فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي اصابته او تفنى قبيلته
لما اخفر من جواره
وانه ليلجأ اليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة
فتكون انفسهم دون نفسه واموالهم دون ماله
واما قولك ايها الملك يئدون اولادهم فانما يفعله من يفعله منهم بالاناث انفة من العار وغيرة من الأزواج
واما قولك ان افضل طعامهم لحوم الابل على ما وصفت منها
فما تركوا مادونها الا احتقارا لها فعمدوا الى أجلها وأفضلها
فكانت مراكبهم وطعامهم مع انها
اكثر البهائم شحوما وأطيبها لحوما وارقها ألبانا واقلها غائلة واحلاها مضغة
وانه لا شيء من اللحمان يعالج ما يعالج به لحمها الا استبان فضلها عليه
واما تحاربهم وأكل بعضهم بعضا وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم
فانما يفعل ذلك من يفعله من الأمم اذا أنست من نفسها ضعفا وتخوفت نهوض عدوها اليها بالزحف
وانه انما يكون في المملكة العظيمة اهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم فيلقون اليهم امورهم وينقادون لهم بأزمتهم
واما العرب فان ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا ان يكونوا ملوكا أجمعين مع أنفتهم من اداء الخراج والوطث بالعسف.